خواطر بلال-المحرر
مثلَّ وعاظ السلاطين، على مر التاريخ، أدواتً في يدِ السُلطة السياسية، في
تخدير الرعية، والسيطرة على الحركات المعارضة التي ظهرت عبر مختلف الحقب التاريخية
منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان، إلى يومنا هذا.
وفي حين تلهج ألسن أولئك الوعاظ بذكر محاسن القيم والعادات، فإن الناس
والذين لا يرون تلك في حياتهم الواقعية يشعرون بشيء من الصراع النفسي بيّن المواعظ
الرنانة، والواقع المعاش، بيد أن العباسيين نجحوا في خلق حالة توازن بيّن ذنك
التناقضين عندما ظهر إسلامين هما إسلام الوعاظ والمواعظ، وإسلام العوام والوقائع
المعاشية، وبينهما بون الشاسع.
وعرض العلامة العراقي علي الوردي نماذج تحليلية لهذا الصراع النفسي، جراء
التاريخ الاسلامي الذي يزخر في مثل هذا التناقض في محطات عل ابرزها تلك الفتنة بيّن
المسلمين والتي تولدت نتيجة رغبة قريش في تحويل الحكومة الرشيدة إلى ملك عضوض فيما
بعد عهد الخليفة عثمان بن عفان، وقيادة معاوية بن سفيان ذلك الإنقلاب على الخلافة
والذي أودى بحياة علي بن أبي طالب ، ومقتل الحسين بن علي-رضي الله عنه-.
وقد انتهى ذاك الصراع النفسي كما قلنا، في ظهور إزدواج الشخصية، والذي نالت
العراق منه أكبر الحصة نتيجة دورها الفاعل في تلك الفتن، وكون أهلها عرفوا بأنهم
أهل شقاق ونفاق، لأنهم وببساطة نالوا قسطًا وافراً من أولئك الوعاظ الذين يدعون
إلى ما ليس للناس فيه عادة سابقة على خلاف وعاظ الشام الذين لم يخرجوا عن طبيعة
القبلية والمادية التي يعيشها الناس، مما جعل أهل الشام أكثر طاعة من أقرانهم في
العراق وفق ما ذهب له الوردي.
وعبر الوردي عن إنتقاده توجه الوعاظ إلى تقديم قدوات عالية بغية إصلاح
المجتمع، محتجاً أن القدوات التي تشبه الناس أكثر قدرة على التأثير، بيد أن
الثورات خلال الحقب السالفة كانت تفشل نتيجة عدم إخلاص الناس لقواد تلك الثورات،
وخاصة أهالي الكوفة تاريخيا.
فيما دعا الوردي إلى إستلهام العبر والدروس من السلف الصالح لا تمثل واقعهم
السالف، قائلاً أن المسلمين الأوائل لم يكونوا منزهين عن الخطأ، بل حققوا النجاح
حينا والفشل حين أخر.
وتناول الوردي المدعو عبد الله بن سبأ، بالتحليل في إطار بحثه وسياق مجريات
الأحداث، حيث توصل إلى أنه مجرد وهم، يمثل ميل وعاظ الأمويين على وجه الخصوص
لصناعة رواية تبرر الخلافات التي نشبت بيّن المسلمين الأوائل نتيجة الصراع بين
قريش وعامة الناس من الصعاليك والأعاجم من غير العرب، مشيراً إلى العلاقة الغريبة
بين سيرة هذا الرجل وسيرة الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري-رضي الله عنه-، والذي نشط
إلى جانب علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر في المطالبة بالعدالة الاجتماعية.
وأشار الوردي إلى حقيقة مؤداها، أن جميع حركات الثورات في العالم، تبدأ
غريبة متهمة بأنها صنيعة مجهول أجنبي من خارج المجتمع وفق نظرة المؤامرة، حتى إذا
نجحت تحولت إلى سابق عهد سلفها من الحكام، بيد أن فشلها سيصيرها واهلها إلى
ملعونين دومًا.
وقال الوردي أن قريش، وخاصة من أسلم منهم بعد الفتح، لم تكن قد أسلمت في
الحقيقة بل استسلمت وتحينت الفرصة لإعادة مجدها حيث توافرت الظروف لها في عهد
الخليفة عثمان بن عفان، ومن ثم معاوية بن سفيان والذي قاد إنقلاب القُرشيين على
الخلافة الراشدة، متذرعة بدم عثمان، والذي ألمح الوردي إلى أن القرشيين ربما هم من
كالوا له حتى يكون مقتله مدخلاً لتسلم زمام الحكم مجددًا.
وأشار إلى إعادة العباسيين والأمويين أمجاد الشعر والشعراء كنوع من إستثارة
الماضي التليد الذي كان ايام أسواق عكاظ وغيرها التي توقفت نتيجة الدين الجديد،
ولتعزيز سلطان القرشيين في العهود التي أتبعت عثمان بن عفان، ولإشغال الناس عن الجدل
والخوض بالوقائع التي رافقت الفتوح والتي لم تكن سوى كسروية جديدة بعيدة وفق
الوردي، عن مقاصد الإسلام، بدلالة رواج السبي فيها.
وتناول الوردي شخصيىة عامر بن ياسر، والعلاقة بين كونه عبدًا كان مملوكًا
لسادة قريش، وبات ذو مكانة في الإسلام، مما يبرر نقمته على القرشيين ما عدا أبو
بكر وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، لأنه لم ينسى قط الإضطهاد الذي تعرض له قبل
الفتح النبوي لمكة المكرمة.
وعقد الوردي تحليلاً لشخصية علي بن أبي طالب، مقارنًا إياها بشخصية معاوية
بن سفيان، حيث أشار إلى أن عدالة علي جعلت قلوب الناس معه وسيوفهم عليه حال كل
أولئك الذين يرومون العدالة الاجتماعية، وقد نال معاوية من جراء بذخه ميل الناس
ونقمتهم النفسية عليه الأمر الذي جعلهم يكثرون من إعلاء ذكر علي بن أبي طالب بعدما
قتل.
فيما افرد الوردي تحليلاً خاصًا بتكوينة شخصية الشهيد، ودرس العلاقة بيّن
السنة والشيعة، وطبق الوردي نظريته الخاصة بالعقل الباطن والقوى النفسية الكامنة
بأعماق النفس البشرية، وذلك التناقض بين النظرية والتطبيق الذي تبع ظهور الإسلام،
وتحقيق الفتح النبوي الشريف لمكة المكرمة.
ختامًا قدم الوردي خلاصة بحثه، والذي دام 356 صفحة من القطع المتوسط، وصدر
عن دار الوراق للنشر والتوزيع، في العاصمة اللبنانية بيروت.