الصراعية كامنة في أغوار الحياة البشرية،
وماركس صاغها
خواطر بلال-المحرر
سجل المفكر الاجتماعي، كارل ماركس، المؤسس الأول للنظرية
الصراعية في الدراسات الاجتماعية، عندما أسهب في تحليل العلاقة بيّن طبقتي العمال وأرباب
العمل، في النظام الرأسمالي، حيثُ عدّ الشيوعية مُنتهى تلك العلاقة، في المشهد
الحياتي العام.
وأتت النظرية الصراعية كردةِ فعلٍ على الوظيفية، والتي
تفترض بقاء المجتمع في حالةٍ أشبه بالجسم الذي تتوزع خلاله الوظائف دونما تغيير
يطرأ.
وساهم عدد من المُفكرين في تجويد النظرية الصراعية،
والتي خلفها ماركس، ومنهم الألماني رالف داهرنوف، والذي عبر عن أفكاره، بتنوع
أشكال الصراع بناء على الاتفاق الجمعي حول تقسيم الموارد في المجتمع.
وتقوم النظرية الصراعية على إفتراض، مؤداه أن التنظيم
الاجتماعي قائم على التدرج، الأمر الذي يحتم ظهور الفروق الطبقية بيّن أبناء
المجتمع، وينتج عن ذلك علاقات صراعية بيّن الطبقة الدنيا والعليا على الدوام، وذلك
بغية الحصول على الموارد وتقسيمها بشكلٍ أكفأ داخل ذاك التنظيم.
وإستند ماركس على المدرسة الجدلية، والتي وضعها هيجل،
بيد أن الأول حول إطار هذه العلاقة الجدلية، من إطار الأفكار، إلى إطار الطبيعة
والمجتمع، فعمل على تطبيقها على تلك العلاقة، التي تسود بيّن مالكي وسائل الإنتاج
"البرجوازيين"، وأولئك المكائن البشرية العاملة،والتي يسميها
"البروليتاريا".
ويقر ماركس في مراسلاته إلى ويدماير، أن نظريته يوجد لها
بعض الجذور من بعض المفكرين البرجوازيين، والذين تطرقوا إلى وجود الطبقية في
المجتمع، بيد أن ماركس، وفق قوله، تميز عنهم في إقامة البرهان على أن الطبقية
إرتبطت بمراحل زمنية محددة من تطور الإنتاج، وأن الصراع بيّن الطبقات، سيظهر إلى
حيز الوجود، دكتاتورية البروليتاريا، وزوال الطبقات.
ويقر ماركس، أن المجتمع يؤلف من بنيتين، الأولى فوقية
تُمثل القيم والأفكار والعادات والثقافة، بيد أن الأخيرة وهي البنية التحتية،
فتُمثل العلاقات المادية، ولا يحدث التغيير إلا بشكلٍ متوازٍ بينهما في المُجتمع.
على ذلك، يُقسم المجتمع إلى فسطاطين، الأول هي
البرجوازية والتي تسعى جاهدة في المحافظة على الحالة الراهنة، كونها منتفعة منها،
ولها مصلحة في بقاءها، وتملك الوسائل الخاصة بالإنتاج، والمال الذي يمكنها من
إشباع حاجاتها.
بينما الثاني هي البروليتارية، والتي تكافح من أجل تحقيق
المكتسبات، وتحسين حالتها المعاشية والتخلص من القيود المفروضة عليها، وتصنع في النهاية الثورة، والتي لا مشاحة في
أنها ستحقق تدمير التنظيم الاجتماعي، وإقامة الحكومة العمالية-البروليتارية، في
نهاية الأمر.
ولم تمنع التحولات التي أصابت بنية النظام الرأسمالي
فيما بعد، وخصوصًا نتيجة ظهور الحركات الحقوقية العمالية، والتشريعات التي تقدم
بعض الإمتيازات للعمال، والعمل على تضخيم الطبقة الوسطى، فإن داهرندروف، أصر على
أنم العلاقة الصراعية لا زالت كامنة في أغوار التنظيم الاجتماعي الراهن.
وعمليًا فإن المتابع للعلاقة بيّن أبناء الطبقتين الغنية
والفقيرة، يرى الصراعات الناعمة والتي تُمسي بارزة في بعض المناسبات، وخصوصًا في
الأوساط المدينية، حيثُ لا زالت التقسيمات الجغرافية تشي بالحالة الصراعية بيّن
تنك الطبقتين.
ففي جميع دول العالم لا زالت الطبقة الفقيرة تتجمع في
أماكن محددة داخل المدينة، وتنكفئ الطبقة الغنية على مناطق أخرى نقيضة جغرافياً
وماديًا، وإقتصاديًا وثقافيا وسلوكيا، إلى جانب الفروق بين المدينة والقرية،
والإعتمادية بيّنهما القائمة على المدينة التي تملك سبل العيش والقرية التي تفتقر
إلى تلك السبل.
عربيًا تمثل أحياء الصفيح في القاهرة وعمان وبغداد على
سبيل المثال، نماذج للفروق الطبقية، وتكثر طرق التعبير عن عدم الرضا والصراع بيّن
قيم الأغنياء والفقراء في تفشي الظواهر الإنحلالية نوعًا ما بين تلك الأحياء.
وتسعى الكتل العمالية داخل التنظيمات الصناعية في
الشركات والمصانع، على صنع علاقات داخلية فيما بينها غير رسمية، ورسمية، تمثلها
حالة التضامن بيّن العمال، والتوافق الضمني على كمية الإنتاج الذي ربما يناقذ طموح
أصحاب العمل، إلى جانب الإنتساب إلى النقابات وعمل تكتلات داخل تلك النقابات،
والتي تسللت لها البرجوازية في مفاصل صناعة القرار فيها.
وتعد المصالح في هذا الصدد، ألف باء الصراع الطبقي،
فلولا تلك المصالح لما ظهر الصراع والذي يتخذ أشكالًا متنوعة ما بين الصراع
الناعم، والذي ربما لا يكاد ظاهرًا إلا للمراقبين المتخصصين، إنتهاء إلى الثورة،
والتي سادت التاريخ البشري في كل مكان وزمان.
وتعد الصراعية في ذلك، أيقونة التطور والتغير
الاجتماعيين الطبيعيين، وفق فلسفة التطور الاجتماعي العامة في الحياة البشرية.
وتفسر النظرية، العديد من الظواهر، منها الثورات
الشعبية، والعنف الأسري، والتمييز العنصري، والفقر والغنى، وتنسب لها الحركات
الحقوقية التي تقود إلى ظهور الحقوق والحريات والديمقراطية، وتدور حول الفروق بيّن
البشر بصورةٍ عامة.
فمن الممكن ترجمة العنف النسوي الموجه ضد الرجال فيها،
نتيجة تمثيل الرجال الجانب المسيطر والمرأة المُسيطر عليه تاريخيًا، وكذلك في
العلاقة بيّن أبناء الأسرة الواحدة سواء بيّن الأباء والأبناء، أو بيّن الشباب
والكبار، أو بيّن المحافظين والمُجددين في المجتمع.
إن فكرة الصراع، وإن صاغها ماركس، بيد أنها لا ترتبط به
تاريخيا، فهي وجدت منذ سيدنا أدم عليه السلام، وربما تمثل قصة قابيل وهابيل أولى
مخرجات تلك النظرية، فالعلاقة بيّن قيم الشر والخير في البعض من وجوهها صراعية،
والعلاقة بيّن الطبقة الحاكمة والمحكومة في مصر القديمة كانت كذلك صراعية.
ومثلت الحركات الدينية أيضًا في التاريخ البشري جُزءاً
من العلاقة الصراعية، فمثلاً سارع عبيد أهل مكة في دخول الإسلام كحركة إجتماعية
ترنو إلى التخلص من ربقة العبودية وحياة القن، التي سادت مجتمع مكة وخصوصًا في
أوساط قبيلة قريش، وكانت القيم الاسلامية حينذاك مغرية لهم في التعبير عن عدم
الرضا على التبعية لأغنياء قريش.
ومثلت الحركات الثورية في تاريخ الدولة الإسلامية،
والدولة الكنسية-في العصور الوسطى، علاقة صراعية على السلطة والموارد وسبل العيش،
وهذه البواعث التي تحرك العلاقة الصراعية على الدوام.
ويشهد العالم اليوم، صراعا من نوع جديد، فصراع العاملين
في بعض المجالات مع الذكاء الإصطناعي والذي يأخذ جانب الشكوى والتخويف والمسارعة
إلى إظهار العيوب للذكاء الإصطناعي، لا يفسر إلا كونه علاقة صراعية للحيلولة دون
إستئثار الذكاء الإصطناعي بالصالح والمكاسب التي يحققها هؤلاء العاملين.
ولا يسعنا هنا إلا الإشارة السريعة إلى تلك الظروف التي
دفعت بالبريطاني ماركس في وضع النظرية الصراعية وتدوينها، حيث كانت إنجلترة تنقسم
إلى طبقتين هما البرجوازية والتي تملك أدوات الإنتاج، والبروليتاريا وهي القوى
البشرية العاملة المملوكة شكليا للبرجوازيين.
وكان يفترض ماركس أن البشر لا ينتجون بصورةٍ مُثلى سوى
عندما يتشاركون الموارد، وقد نجح لينين في روسيا بإقامة حكومة العمال-السوفييت-،
إلا أن تورط الشيوعيين أنذاك بعبادة الشخص أفقد طموح لينين في بناء دولة العمال
رونقه، وتحولت السوفييت إلى نوع جديد من الإستغلال، الأمر الذي أنهى حلم لينين إلى
التفكك والإنهيار.
في حين مثلت ردات الفعل على الغزو الروسي لأوكرانيا،
العام 2022، كوامن العلاقة الصراعية بيّن الشرق والغرب.
المراجع:
نظرية الصراع الاجتماعي من منطق كارل ماركس إلى منطق
داهرندروف، زيات فيصل ومخطار ديدوش محمد
نظرية الصراع لدى كارل ماركس، ثامر سباعنه، العربي
الجديد.