خواطر بلال-المحرر
تُمثل الاسرة أحد أهم مؤسسات التنشئة المجتمعية، والتي تبني شخصية أبناءالمجتمع منذ نشأتهم الأولى، مما يجعلها وحدة صناعية معنية بصناعة الإنسان من مختلف جوانبه الروحية و العقلية والمعرفية والوجدانية والثقافية، إلى جانب صقل مواهبه وقدراته ذات الطبيعة المكتسبة.
وتمثل الاستراتيجية التي تعمل عليها الأسرة كوحد صناعية ميكروية-صغيرة في المجتمع، الطرق التي تقوم من خلالها الأسرة بوظيفتها في صناعة الإنسان وتشكيله ليكون إنسانًا فاعلاً وناشطًا في المجتمع.
وفي مجتمع ذا ثقافة معولمة، يسعى نحو الدمقرطة والحرية الاقتصادية والثقافية، تتعقد مسؤولية الأسر في بناء الثقافة الديموقراطية في تكوينة الناشئة، وبما يتعارض مع السلطوية المتوارثة في أسر المجتمعات العربية خصوصًا، الأمر الذي يتطلب تعلم كيفية بناء الدمقرطة في البيت كسلوك ونهج حياة.
وتمثل الديموقراطية نهج وسلوك حياة، تجعل من الإنسان حُراً لا ينساق خلف الموروثات والدعوات الرائجة بلا عقل وتدبر، والله عز وجل يدعو للديموقراطية في التحرر من عبادة الأصنام، والتفكر والتدبر في الكون بلا قيد ولا شرط، فمبدأ القراءة يتطلب العمل لكي تكون القراءة مجدية، وكي تعمل أنت بحاجة لبيئة ديموقراطية تجعل منك حراً في التصرف.
ولأن الوسطية هي سنة الحياة، فإن للحرية والدمقرطة حدوداً هي تلك التي وضعها الله في شريعته الغراء، لتكون الحرية والديموقراطية إنسانية الطابع والمضمون والهدف، من خلال جعل غايتها الإنسان، لا أن تكون كما يعتقد البعض من دعاة بلا هدف ولا غاية.
وعندما سادت الديموقراطية الأمة المسلمة في القرون الأولى من عمر الحضارة الإسلامية، كانت الأمة ناجحة وتمثل قدوة الأمم تمامًا كما هي الأمة الغربية اليوم بالنسبة لنا، مع فارق أن الخيرية والإنسانية كانت هدف الحضارة الأولى، بينما الثانية هي المادية والتسليع.
والديموقراطية أسلوب حياة مكتسب، ينشأ ويترعرع في مجتمع ذا ثقافة حرة ترفض الخنوع والإستسلام للواقع، وتنشد إعمال العقل والتفكير والتدبر في الكون لتجويد الحياة وتحسينها، وهذا عينُ الديموقراطية الإسلامية التي سادت الحضارة وقتما كانت صلبة مهيبة الجانب.
وعندما تقهقرت الأمة، ونكصت حضارتها على أعقابها، أمام المد الغربي الأمريكاني، سادها الذل والهوان وجلد الذات والسلطوية، والرجل الواحد المتوحد في قراره ورؤاه في الأسرة والمدرسة كما المؤسسة الرسمية والأهلية فضعفت الديموقراطية الإسلامية، وبات الشّباب ينظرون للغالب على أنه مالك مفاتيح العزة والكرامة التي فقدوها في جريرة آلة المحتل والمستعمر والمنتصر ما بعد الحربين الكونيتين الكُبريين.
وما أسطع نور إشتهاء الكرامة والعزة، في التعامل العربي الشعبي والرسمي-عل مستوىً اقل-، في أعقاب الحركة الثورية التي يقودها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وجه الأمركة العالمية بعد غزو أوكرانيا، وتعزيز العملات الوطنية على حساب الدولار الأمريكاني، في محاولةٍ نتمنى لها النجاح في إنتصار قيم الدمقرطة والحرية في حياننا على قيم التبعية للغالب والثقافة الأمريكانية غير الإنسانية في أكثر مضامينها إشتهاراً.
والاسرة في كل ذلك مطالبة في بناء الدمقرطة، في مواجهة الموروث السلطوي الطاغي، وبناء القدوة الحسنة في نفوس أبنائنا الناشئة حول الدمقرطة ومحاسنها، وتنقيتها مما ران عليها من البدع الأمريكانية التي صورت الديموقراطية كنتاج حضاري أمريكي خاص، مع أن الحضارة الإسلامية سبقت تلك الحضارة الأمريكية بقرون في قيم الديموقراطية وإن تعددت المسميات والمفاهيم بينهما.
ولا تنجح الاسرة في ذلك إلا بتفعيل أدواتها التربوية المتاحة وعل أبرزها:
- رواية قصص الحضارة الإسلامية والتركيز على المحطات الديموقراطية فيها بعيداً عن محطات الحرب والإقتتال والذي رافق الحضارة الإسلامية كما رافق الحضارات الأخرى ومنها الأمريكية، وكلنا يعرف أن الولايات الأمريكية استثمرت في ملفات الإرهاب والشائعات حول العراق وأججت الصراعات في أوكرانيا وتدعم الصراع العربي الإسرائيلي، وكل هذا لأن الحرب والسلام ثنائية نهضة الحضارة ونجاحها وسنة الحضارات عبر مرار الزمن.
- ممارسة الديموقراطية، الحوار في حياتنا، وبناء قراراتنا وفق معايير الخيرية والمنفعة المتبادلة، كنهج إسلامي متوازن وسطي، وإحترام ودعم خيارات الأبناء.
- على العلماء وصناع الدراما العربية، صناعة الدراما التي تعبر عن حاجات المجتمع العربي، وتعكس قيم الخير والفلاح فيه، إلى جانب تلك التي تقدم واقعه المؤلم بصورةٍ تدفع لإصلاح الواقع لا تعزيزه وتحبيذ الناس فيه.
- وعلى رجال الدين الخروج من صومعتهم والولوج إلى محارب الحياة حتى يكونوا لاعبين فاعلين في المجتمع، يصنعون الديموقراطية عملاً وقولاً، تلك الديموقراطية البناءة التي تساعد في تنهيض الحضارة، لا الإيغال في إضعافها وسحقها، وبناء النموذج الحضاري العربي، كي لا يكونوا مجرد ديكورات نراهم بالمناسبات والأيام المخصوصة ببعض الطقوس الصماء.
- تشجيع الحوار والتفكير والنقد البناء الهادف، وبناء ثقافة النقد والإختلاف في عقول الأبناء في المدارس ودور العبادة والإعلام والعمل على إدماج الشباب والأطفال بفرق وشلل متصالحة مع قيم الدمقرطة الإسلامية ذات الخيرية في صميم تكوينها وأهدافها.
- محاربة الشائعة وتصديق ما يُقرأ بلا تمحيص وتفكير وتدبر، وتقبل الأراء المختلفة.
- محاكمة ما يعرض على مواقع التواصل الاجتماعي من محتوىً لمنطق العقل والفكر، فقديما كان الناس لا يلقون السمع للسفهاء من أصحاب الأصوات الجائرة، فكيف اليوم والسفهاء يقودون صنعة الرأي في المنصات!!